١٣/٧/٢٠٢٥
ميخائيل عوض
١
فعلَ خيرًا توماس براك بأنْ علَّق الجرسَ بصوتٍ صادمٍ.
قالها، فاهتزَّت الأرضُ، واكفهرَّت السماءُ، وانهالت ردودُ الفعل من كلِّ حدبٍ وصوبٍ، إلّا السياديّين بالمزاعمِ والهوبراتِ، فقد أطربهم قولُه، وسارعوا - كعاداتِهم السيئةِ - لمحاولةِ الاستثمارِ وتوجيهِ الدفّةِ إلى السلاحِ ورجالِه، وهم وحدَهم حُمَاةُ الكيانِ والنظامِ والصيغةِ، وقدّموا أعزَّ ما يملكونَ على مذبحِها.
حذَّر اللبنانيّين من أنَّهم إن لم يتّعظوا ويهمّوا ويهبّوا هبّةَ رجلٍ واحدٍ لحمايةِ الكيانِ، فقد يتبخّر ويذوب.
براك قالَ كلامًا مُحقًّا، لكنّه لغايةٍ في نفسِه، ولتمريرِ مشاريعِ الفوضى والتدميرِ، تجاهلَ - عن عمدٍ - واقعَ الحالِ والتاريخِ والجغرافيا وعلومِ الجيوبوليتيك والجيوسياسية.
نعم، لبنان جزءٌ أصيلٌ ومؤسِّسٌ من ساحلِ الشام، وعبرَه صُنِعت الشامُ وصُدّرت الحرفةُ والحرفُ، وأصولُ الانتظامِ البشريِّ والعُمرانِ، وركوبُ البحارِ والتجارةِ، والنوتةُ الموسيقيّةُ، وقواعدُ التحكيمِ والقضاء.
٢
هو جزءٌ من ساحلِ الشام الممتدِّ من إسكندرون إلى غزّة، بحسبِ وقائعَ وحقائقَ التاريخِ منذ الخلق.
وساحلُ الشام شاهدٌ، بل مُؤسِّسٌ، في صعودِ وانهيارِ الحضاراتِ والإمبراطورياتِ، منذ كان الفينيقيّون - وهم أوّلُ وأعظمُ حضارةٍ وأوسعُها انتشارًا - وصلت طلائعُهم إلى أمريكا، سابقين كولومبوس بآلافِ السنين، وآثارُهم شاهدةٌ.
٣
بحسبِ عبد المجيد عبد الملك في كتابِه ساحل الشام والصراعات الدوليّة، الصادرِ على جزئين عن مكتبةِ بيسان عام ٢٠٠١ و٢٠٠٧ ، فالمثلّث بزواياه الذهبيّة: بيروت / القدس - غزّة- بغداد، تُصنع فيه وبحروبِه مستقبلُ الإمبراطورياتِ والقوى، فإنِ انتصرتْ في واحدةٍ من الزوايا، تعاظمت وسادت، وإنْ هُزِمتْ في واحدةٍ، تراجعت حتى بادت.
وآخرُ الأمثلة: الاتحادُ السوفيتيّ، عندما خسرَ بيروت وبغداد.
والحقُّ أنَّ حروبَ الزوايا الثلاث ملتهبةٌ، ويُهزمُ فيها أعتى إمبراطورياتِ العدوانِ والإبادة، ومعها عالمُها الأنجلوساكسوني، وقد دخلت صنعاءُ الحربَ بهويّةٍ وهي العربيّةُ الجنوبيّةُ.
٤
والحقُّ أنَّ ساحلَ الشام وبَرَّه قد جرى تقسيمُه لتصنيعِ نظمٍ وكياناتٍ لتخديمِ الكيانِ المُصنَّع، والجميعُ في خدمةِ السيطرةِ العدوانيّةِ الإمبرياليّة.
هو بلسانه وقلمِه سبق أن غرّد وأدان الدولَ الاستعماريّةَ التي أبلَت الشامَ والعربيّةَ بالتقسيم.
كما قبله ماكرون، صاحبُ "الحبّ الشديد في لبنان"، والوزيرُ جنبلاط، وغالبيّةُ الزعماء والباحثين، تحدّثوا بإسهابٍ عن انتهاءِ تقسيماتِ سايكس بيكو، وحذّروا من زوالِ الكيانِ والكياناتِ، ولم تَقُم الدنيا ولم تقعد.
٥
في حقائقِ الواقعِ - وكُنّا كتبنا وذكرنا ورفعنا الصوتَ وقلنا وأصدرنا كتابَنا عام ٢٠١٨ بعنوان "«العرب والمسألة القومية في القرن الواحد والعشرين … قراءة معاصرة في الأمة والدولة والعولمة» - أصَّلْنا فيه بإسهابٍ الحالةَ ووثّقناها، وجزمنا بأنّ جغرافيةَ ونُظُمَ سايكس بيكو المُصنَّعةَ قد فقدتْ وظائفَها، وانفجرتْ على نفسِها، وعجزت قوى الاستعمارِ عن تجزئةِ المُجزّأ، وإدامةِ الفوضى، وجزمنا بأنَّ العرب - بدءًا من الشام - في حقبةِ إعادةِ الهيكلةِ نُظمًا وجغرافيًّا، والاتّجاهِ إلى تكبيرِ الجغرافيا لا تصغيرِها.
٦
في الواقعِ وأحداثِه ومُندرجاتِه، فمحورُ المقاومةِ والسلاحُ ورجالُه هم مَن أفقدوا سايكس بيكو وظائفَها، وهزموا أمريكا وعالمَها، وحكومةَ الشركاتِ الخفيّة، ممّا وفّر الظروفَ والشروطَ الموضوعيّةَ للتحوّلاتِ العالميّةِ، وصعودِ أوراسيا، والظاهرةِ الترمبيّة في أمريكا، وتشكيلِ لوبي العولمة، ولوبي شركاتِ الهاي تك والتواصليّة، وحزبِ أمريكا لإيلون ماسك.
فلا فضلَ لبراك ومعلّميه: ترمب ونتنياهو.
٧
بواقعِ حقائقِ الأزمنةِ والجغرافيا وحاجاتِها، فصانعُ الشيءِ هو من يُجيدُ استخدامَه، وتاليًا فلن تكونَ لنتنياهو فُرَصٌ لتحقيقِ أحلامِه والاستثمارِ بالظروفِ لتحويلِ دولتِه من وظيفيّةٍ قاصرةٍ فقدتْ وظائفَها ودورَها إلى إقليميّةٍ حاكمةٍ؛ فهذه أحلامُ إبليسَ في الجنّة.
خيرًا فعلَ براك بأن صدّع الرؤوسَ، وفجّر قُنبلةً، ثمّ عاد فضبطَ تصريحَه؛ منعًا لاستغلالِه من دعاةِ السيادةِ الكاذبين والمزوّرين والمنخرطين حتى النخاعِ بالتآمرِ على الكيانِ وبقائه، على عكسِ مَن يستهدفون السلاحَ ورجالَه؛ حُمَاةِ السيادةِ والكرامةِ وحَفَظةِ الكيان.
علّقَ الجرس، وأعادَ قولَ ما قاله ماكرون بحضورِ أركانِ المنظومةِ:
الكيانُ في خطر، والنظامُ أفلَسَ، فلا مَخرَجَ إلّا بتغييرٍ حدّيٍ وجذريٍّ للنظام، وعَصرنتِه، وتحريرِه من العنصريّةِ البائدةِ بالتقاسمِ الطائفيّ، تمهيدًا وشرطًا لعَصرنةِ وظائفِ الكيانِ، ليلعبَ دورًا رائدًا في العودةِ إلى الشام والعربيّة، بكياناتٍ جامعةٍ، وجغرافيّةٍ واسعةٍ، بلا "إسرائيل"، ومتحرّرةٍ من هيمنةِ الغربِ الاستعماريّة، وبنُظُمٍ عصريّةٍ تُحقّقُ حاجاتِ البشرِ الماديّةِ والروحيّة.
فالظرفُ الموضوعيُّ، واستحقاقُ المهامِّ، فَرَضَ واجبًا، وعلى اللبنانيّين وأهلِ الشام أن ينهضوا لمهامِّ التاريخِ وإنجازِها، وإلّا فالفوضى والضياعُ هو المصيرُ.
لمتابعة كل جديد الاشتراك بقناة الأجمل آت مع ميخائيل عوض على الرابط
https://youtube.com/channel/UCobZkbbxpvRjeIGXATr2biQ?si=9qbBkVg5nvpqmOS